البرنامج الموسوعي الجامع

البرنامج الموسوعي الجامع

شبكة المفاهيم المؤثرة في تعريف الحرية

62 views

تمهيد:

لقد أدخل الفقه الحنفي الحرية في منظومة المصالح والحقوق، مما جعلها موصولةً بحزمة من المفاهيم الكبرى التي تؤثر على مفهوم الحرية، وتحدد استعمالاته وآفاقه التشريعية.

ولعل من أكثر تلك المفاهيم الحافة بالحرية:

1- الآدمية.

2- والبقاء.

3- والعقل والقوة.

4- والعبادة.

5- والأمانة.

وسنتناول هذه المفاهيم بالكشف عن الصلات بينها وبين الحرية، وبعض تأثيراتها على تكوين الأحكام الفقهية الصادرة عن المذهب الحنفي.

– المفهوم الأول: الآدمية:

لقد استخدم فقهاء الحنفية بعض الكلمات التي تؤكد وترسخ النزعة للحرية باعتبارها ضمن منظومة الحقوق الأصلية، وتلك الكلمات مثل: “الإنسان”([1])، “الآدمي”([2])؛ في إشارة إلى أنَّ الحرية هي الحالة الأصلية التي خُلق عليها جميع البشر، وقد صرَّح بذلك الزيلعي، فقال: “الآدمي حرٌّ بأصل الخلقة”([3]).

وفي هذا السياق ينبغي أن نوضح بعض القواعد المبثوثة في كتب الفقه الحنفي، والمؤكدة لتفاعل الآدمية مع مفهوم الحرية.

القاعدة الأولى: ما كان من خواص الآدمية فهو مبقى على أصل الحرية:

تلك القاعدة من أكثر القواعد التي يمكن استنباطها من كتب المذهب الحنفي، وقد يعبرون عنها بقولهم: “من خواص الإنسانية”([4]). فهي تؤكد الترابط القوي بين الآدمية والحرية.

وقد استخدمها فقهاء الحنفية في كتبهم للتعبير عن أنَّ الحرية هي الأصل، وأنَّ الرقَّ طارئ، وبالتالي فيستوي الحرُّ وغيره في كل ما كان من خواص الآدمية: كحق الدم والحياة([5])، وحق النكاح([6])، وأهلية العبارة في الإقرار بالديون وغيرها([7]).

قال الإمام السرخسي: “العبد في معنى النفسية مُبقى على أصل الحرية”([8])، أي أن كل الأفعال التي تتعلَّق بكونه نفسًا آدمية تجري عليها أحكام الحرية: كعصمة الدم، وحرية المعتقد، والزواج، والتعبير عن الرأي وغير ذلك.

ثم تجذَّرت تلك القاعدة بعمق داخل التربة الحنفية، حتى استخدموها في التنظير والمحاججة الفقهية؛ كترجيحهم لصحة الوصية للجنين، وعللوا ذلك بأنَّه: “لاعتبار معنى النفسية صحت الوصية”([9])، فكون الجنين نفسًا آدمية فهو متصف بالحرية، وإذا اتصف بالحرية أمكنه أن يملك، فالملكية فرع عن الحرية، واستخدموها في مسائلَ أخرى كثيرة.

القاعدة الثانية: الحرية الآدمية مدار الحريات الرئيسة:

إنَّ المدقق في منظومة الفقه الحنفي يكتشف أنهم يثبتون نوعين من الحرية الآدمية: الأول: حرية أصلية قوية يثبت بها الحد الأعلى من الحريات، وتلك يستوي فيها جميع الناس. الثاني: حرية عارضة ضعيفة يثبت بها الحد الأدنى من الحريات، وتلك هي المختصة بالأرقاء.

فالأصل أنَّ الحرية الآدمية يملكها البشري بسبب كرامته الآدمية دون أي اعتبار آخر، والكل في تلك الحرية متساوون في الحقوق والواجبات؛ فحق الحياة حرية أصلية ثابتة للحر والعبد عملًا بالآدمية، وهي في حالة الرق ما زالت مؤثرةً تفرز حقوقًا والتزاماتٍ، حيث يصرح فقهاء الحنفية بأنَّ الرقَّ لا ينافي الكثير من حريات التصرف، مثل ملك الحياة والنكاح والتوكيل كما تقدم بيانه‫.

القاعدة الثالثة: الكرامة الآدمية مصدر الحريات:

هناك ارتباطٌ وثيقٌ في التشريع الإسلامي بين الحرية والكرامة، وضمن هذا الوعي تأسست واحدة من أوضح قواعد الفقه الحافة بالحريات، وهو ما تكرَّر في كتب المذهب الحنفي بقولهم: “الآدمي مكرم”([10])، فالحرية الآدمية ثبتت للإنسان لاتصافه بالكرامة، أيًّا كان عرقه أو لونه أو عقيدته، قال ابن عابدين: “الآدمي مكرم شرعًا وإن كان كافرًا”([11]).

فالحرية من فروع الكرامة وآثارها؛ لأن “الأصل أن يكون لكل إنسان يد على نفسه؛ إبانةً لمعنى الكرامة”([12]).

كما أن الحرية مؤشر على مدى الكرامة، فكلما انتهكت الحريات انتهكت الكرامة، وبناء على ذلك يصف فقهاء الحنفية حرية الإنسان وملكه لحقوقه بأنها “كرامات”؛ حيث يعرفون العتق بأنه: “إحياء حكمي يُخرج العبد عن كونه ملحقًا بالجمادات إلى كونه أهلًا للكرامات البشرية”([13]).

– المفهوم الثاني: البقاء:

قد تقرَّر في علم الاجتماع أن: “الاجتماع ضروري للنوع الإنساني، وإلا لم يكمل وجودهم، وما أراده الله من اعتمار العالم بهم واستخلافه إياهم”([14])، فلا يمكن للفرد أن يوفر لنفسه كل أسباب البقاء من طعام، ولباس، وحماية، وآلات عمران، ولو افترضنا استطاعة البعض فلن يستطيع أن يوفر مقومات بقاء النسل، فالإنسان مشتق من الأُنس، محتاج إلى المشاركة والمعاونة والمزاوجة للحفاظ على البقاء.

غير أنَّ هذا الاجتماع سينتج عنه بالضرورة بعض الصراعات والمنازعات والمنافسات التي تحتاج إلى منظومة تشريعية محكمة تفصل في تلك المنازعات، وتبين الحقوق والواجبات، وهو المعبر عنه بـ “فقه المعاملات”.

وسوف نناقش في هذا المفهوم تقسيم الحنفية لأنواع البقاء، وتأثير ذلك على مفهوم الحرية، وذلك من حيث ما يتعلق ببقاء الشخص الواحد، وما يتعلق ببقاء الجنس البشري ككل -وما يتضمنه من بقاء الأسرة وبقاء الاجتماع السياسي المعبرة عنه بالمدنية- ثم بقاء الأرض، وعلاقة ذلك بمفهوم الحرية.

1- بقاء الشخص الواحد:

فكل إنسان خلقه الله سبحانه قد كرمه بثلاثة حقوق:

الحق الأول: حق الحياة، أي: عصمة الدم.

فقد برهن فقهاء الحنفية أنَّ حقَّ الحياة يُشتقُّ من الحرية، وهو مكفولٌ لكافة البشر الأحرار والأرقاء، فالفرقُ بين حياة الإنسان وحياة الحيوان أنَّ حياةَ الإنسان محمية بالحرية، وهذا التفكير تمت صياغته عند الأحناف في قاعدة: “العبد مُبقى على أصل الحرية في حق الدم والحياة”([15]).

فحق الحياة مشتق من حكمة الخلق، قال علاء الدين البخاري الحنفي: “لأن الوصف الذي يُبتنى عليه القصاص وتثبت لأجله العصمة كونه متحملًا أمانة الله عز وجل؛ إذ التحمل والأداء لا يمكن إلا بالبقاء، والبقاء لا يتحقق بدون العصمة، وهذا وصف أصلي لا ينفك عنه”([16]).

فقد استخدم الحنفية هذا المنطق التشريعي في استنباط الحقوق والأحكام، فأوجبوا القصاص من الحر إذا قتل عبدًا؛ مخالفين بذلك جمهور الفقهاء؛ حيث إنَّ الرقَّ عندهم لا يؤثر في عصمة الدم([17]).

الحق الثاني: وفرة أسباب العيش:

ينبغي على المسلم أن يتخذَ من الأسباب ما يحفظُ عليه حياته وحياة عياله أن تتعرض للخطر والهلاك، فقد صرح الحنفية بآكدية اتخاذ واجبات الحد الأدنى من أسباب العيش كالغذاء، والشراب، والهواء، واللباس والمساكن، واتخاذ بعض الآلات التي تحصن وتقي من المخاطر وأسباب الفساد([18]).

الحق الثالث: الاكتساب:

لقد أمرنا الله سبحانه بالسعي في طلب أسباب المعاش فقال تعالى: {هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ ذَلُولٗا فَٱمۡشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزۡقِهِۦۖ وَإِلَيۡهِ ٱلنُّشُورُ} [الملك: 15]. وقال: {لَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٌ أَن تَبۡتَغُواْ فَضۡلٗا مِّن رَّبِّكُمۡ} [البقرة: 198].

وقد ذكر فقهاء الحنفية أن الله سبحانه قد جعل كسب العباد سببًا للبقاء والنظام، قال السرخسي: “الله تعالى أمر بالإنفاق على العيال من الزوجات والأولاد والمعتدات، ولا يتمكن من الإنفاق عليهم إلا بتحصيل المال بالكسب، وما يتوصل به إلى أداء الواجب يكون واجبًا، والمعقول يشهد له، فإن في الكسب نظام العالم، والله تعالى حكم ببقاء العالم إلى حين فنائه، وجعل سبب البقاء والنظام كسب العباد، وفي تركه تخريب نظامه، وذلك ممنوع منه”([19]).

وهذا يفتقر إلى الاجتماع الذي ينتج عنه المشاركة والمعاونة؛ فقد جعل الله سبحانه من الضعف البشري المستتبع لاحتياج المرء لغيره سببًا من أسباب إيصال الأرزاق، وهذا هو الطريق الوحيد للحفاظ على البقاء.

2- بقاء الأسرة:

ثم ننتقل ضمن “مفهوم البقاء” من البقاء الفردي إلى الجماعي المرتبط ببقاء النوع البشري، وتركز الأحكام التشريعية في هذا المستوى “على بقاء النوع الإنساني وذلك يتوقف على ازدواج الذكور مع الإناث للتوالد والتناسل”([20]).

فالله سبحانه وتعالى قد خلق الإنسان ليعمر هذا العالم إلى يوم القيامة، ولا طريقَ إلى البقاء في تلك الوظيفة إلا بالتزاوج والتناسل، ولا يكون ذلك إلا باجتماع الذكور والإناث على وفق الطريقة التي قدرها الله سبحانه التي تحفظ على الخلق المودَّة والرحمة وصحة الأنساب، فلا يتصل بهم فساد أو ضياع، قال السرخسي: “إن الله تعالى حكم ببقاء العالم إلى قيام الساعة، وبالتناسل يكون هذا البقاء، وهذا التناسل عادة لا يكون إلا بين الذكور والإناث، ولا يحصل ذلك بينهما إلا بالوطء”([21]).

وذلك الازدواج بين الذكور والإناث أسَّسته الشريعةُ على مبدأ الحرية في الاختيار، فلا يُجبر ذكر ولا أنثى بالتغالب والقهر على الاتصال بشخص لا يريده، لا بزواج ولا غيره؛ لأنَّ ذلك يؤدي إلى النُّفرة واستحالة العشرة، ثم الانفصال الذي يقضي على البقاء الأسري.

والأمر في الإناث أوضح، ولذا فقد جاءت النصوص الشرعية واضحة صريحة في عدم جواز إجبار الأنثى على الزواج، فعن عائشة رضي الله عنها: ((أن فتاة دخلت عليها فقالت: إن أبي زوجني ابن أخيه ليرفع بي خسيسته وأنا كارهة، قالت: اجلسي حتى يأتي النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فأرسل إلى أبيها فدعاه، فجعل الأمر إليها، فقالت: يا رسول الله، قد أجزت ما صنع أبي، ولكن أردت أن أعلم أللنساء من الأمر شيء))([22]).

وقريب من ذلك ما صرح به علماء الحنفية، قال السرخسي: “فجعل الشرع طريق ذلك الوطء النكاح؛ لأن في التغالب فسادًا”([23]). فتلك العلاقة بين المنافع والحريات كانت واضحةً في العقل التشريعي الحنفي، ففي النكاح مجموعة من المنافع متعلقة بما ينتج عنه من مودَّة ورحمة ونسل سوي، والحريات تضمن أن يتم تحصيل تلك المنافع بالطريقة المثلى دون تغالب أو قهر، وهذا هو ما يضمن البقاء الأسري‫.

3- بقاء الحضارة (المدنية):

ثم ننتقل إلى نوع أشمل ضمن أنواع البقاء، وهو “بقاء الاجتماع الإنساني” الذي يؤدي إلى نشوء الحضارة، فبقاء الأسرة وحده لا يفي بالغرض، بل ينبغي أن تجتمع تلك الأسر وتتعاون فيما بينها وتتشارك لكي تنشأ الحضارة، وذلك لا يتم إلا ضمن منظومة واضحة من الحريات التي تضمن عدم التعدي ومنع التغالب.

وقد ذكر المذهب الحنفي في هذا الصدد أن المنظومة التشريعية قد حفظت ذلك البقاء المدني بأمرين‫ فيهما ضبط مفهوم الحرية:

الأول: القضاء العادل: الذي يحافظ على الحقوق، ويفصل في الخصومات، ويقيم العقوبات وفق منظومة عادلة لا توالي ولا تحابي، فلا بد من زاجر يضمن ألا تكون الحرية سببًا في التعدي والإفساد، حتى يضمن بقاء النظام، ويصون النفوس والأعراض والأموال.

قال العيني: “في القضاء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ودفع الظلم عن المظلوم، ودفع التهارج، وقطع المنازعات، وفصل الخصومات”([24]).

الثاني: السياسة والسلطة: يرى الحنفية أنَّ السياسة هي استصلاح الخلق بإرشادهم إلى الطريق المنجي في الدنيا والآخرة، وهي تكون من الأنبياء على الخاصة والعامة في ظاهرهم وباطنهم، ومن السلاطين والملوك على كل منهم في ظاهره لا غير، ومن العلماء ورثة الأنبياء على الخاصة في باطنهم لا غير. فالسياسة بمفهومها الحالي هي التي تكون من ولي الأمر على ما يظهر من الخلق، فتتيح له الزجر والتأديب لمصلحة يراها، ولحسم مواد الفساد لبقاء العالم. والسياسة التي أقرها الشرع هي تلك العادلة التي تُخرج الحق من الظالم، وتدفع عن المظلوم، وتردع أهل الفساد، وتوصل إلى المقاصد الشرعية([25]).

فالسياسة بهذا المفهوم هي التي تحد من الحرية الظالمة، وتفتح المجال لتلك المنضبطة التي لا تتعدى على حريات الآخرين، فهي وسيلةٌ رئيسةٌ لحفظ بقاء الحضارة بحسم مواد الفساد.

وهذا البقاء المدني الحضاري يلتقي مع البقاء الشخصي والأسري في طريقة تنظيم سعي الناس نحو الموارد والمال والجاه، وتلك النظم التشريعية -كعقود المعاملات وعقود تولي الحكم السياسي- هي الأداة الفاعلة التي تنظم اجتماع الأفراد بطبعهم المدني، وتوصلهم لتحقيق المصالح والمنافع عن طريق التراضي دون تغالب أو قهر.

4- بقاء الأرض:

قد أكد الحنفية أن “الله تعالى حكم ببقاء العالم إلى قيام الساعة”([26])، وهذا لا يتم إلا ببقاء الأرض، مع إعمارها المستتبع لما تقدم الكلام عليه من بقاء الشخص والأسرة، وفي هذا الخط من التفقه يدخل إحياء الأرض الموات وغير ذلك من الأحكام الفقهية‫.

إلا أنَّ البقاء وحده لا يتم به الإعمار إلا إذا مُزج بالتعاون الذي يُعدُّ من أهم مكونات الحرية في الفقه الحنفي؛ لأنه يقطع التنازع، ويحمي الحريات من تسلُّط الغير، وأيضًا يساعد على الإعمار بتوسيع دائرة القدرات وتنويع الخيارات، وفتح إمكانات عيش أوسع وأغنى لكل شخص؛ بحيث لم يكن بمقدوره تحقيق ذلك لو كان بمفرده، فمبدأ الحرية هو المهيمن على تنظيم علاقات التعاون والتبادل.

المفهوم الثالث: العقل والقوة:

العقل والقوة من أبرز المعطيات التي تؤثر على نشوء الحريات وممارستها، فكي يكون المرء حرًّا ينبغي أن يمتلك عقلًا وعلمًا يساعده على الفهم والاختيار، ثم يمتلك من القدرة والقوة ما يُعينه على الفعل.

فقد اشترط علماء الحنفية لأهلية الأداء الكاملة: “القدرة على فهم الخطاب، وعلى أداء ما تناوله الخطاب”([27]). فالفهم الجيد يؤهل المرء للاختيار، ولكن لا معنى للاختيار إن لم تتوفر القدرة على إنجازه في العالم الواقعي الحقيقي.

المفهوم الرابع: العبادة:

إن الله سبحانه وتعالى قد ترك للناس حرية الإيمان، فقال: {وَقُلِ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكُمۡۖ فَمَن شَآءَ فَلۡيُؤۡمِن وَمَن شَآءَ فَلۡيَكۡفُرۡ} [الكهف: 29]، فالأصل أن الناس أحرار في عقيدتهم وما يعبدون.

وهذا الأصل تجده واضحًا في التنظير الحنفي؛ فعندهم أن الدنيا دار اختيار وابتلاء، وبالتالي فالجزاء على الكفر مؤجَّل ليوم الحساب؛ ففي تفسيرهم مثلًا لمعنى العبادة في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ إِلَّا لِيَعۡبُدُونِ} [الذاريات: 56]: كان يقتضي ظاهر قوله تعالى: {إِلَّا لِيَعۡبُدُونِ} أن الخلق مجبورون على عباده الله سبحانه، إلا أن هذا المعنى سيُخرج العبادة من أن ينالها ثواب أو عقاب بتركها؛ لأن ذلك يثبت باختيار يكون من العبد عند الإقدام عليها، وبالتالي فالمراد عندهم من قوله {إِلَّا لِيَعۡبُدُونِ}: إلا وعليهم العبادة لي([28])، فالله تعالى قد جعل الناس أحرارًا ليكونوا أهلًا للعبادة.

وبناءً على ذلك الأصل لم يحكموا بقتل المرتد إلا لمعنى القدرة على المحاربة دفعًا لشره الناجز، أما المرتدة عندهم فلا تقتل؛ لأنَّ الأصل في النساء عدم الصلاحية للمحاربة، ففي الهداية: “وأما المرتدة فلا تقتل؛ لأنَّ النبيَّ عليه الصلاة والسلام نهى عن قتل النساء، ولأن الأصل تأخير الجزية إلى دار الآخرة؛ إذ تعجيلها يخلُّ بمعنى الابتلاء، وإنما عُدل عنه -أي: في الرجال- دفعًا لشر ناجز وهو الحراب، ولا يتوجه ذلك من النساء لعدم صلاحية البنية بخلاف الرجال”([29]).

وإذا مشينا مع هذا التنظير الحنفي فسيدفعنا حتمًا إلى ترك الأمر برُمَّته لتقدير ولي الأمر حتى في شأن الرجل المرتد؛ ليقدر الحاكم مَن عنده القدرة على المحاربة وإيقاع الفتنة والضرر من عدمه.

كما استفاض الحنفية في العمل بقاعدة “نتركهم وما يدينون”([30]) عند معالجة حريات وحقوق غير المسلمين؛ حيث إنَّ الأصل هو حرية تصرف المرء وفق ديانته، وذلك عند تعاطي مسائل مثل: “الخمر، وأكل الخنزير، وصحة أنواع النكاح عندهم” وغير ذلك.

والخلاصة أنَّ حرية العبادة والإسلام لا يتعارضانِ، فالله سبحانه قد كرَّم ابن آدم بنعمة “حرية الاختيار” وابتلاه بها في آنٍ معًا، فهو حرٌّ فيما يختاره في هذه الدنيا، محاسب عليه في الآخرة.

المفهوم الخامس: الأمانة:

إنَّ حرية الإنسان ليست ملكيةً شخصيةً بحيث يحقُّ له أن يتصرَّف فيها كيفما شاء، فيبيعها أو يهبها، أو يؤجرها، أو يتلفها دون مساءلة من أحد، بل هي أمانة الله لدى العبد، والشيء المؤتمن عليه لا يملك صاحبه التصرف فيه أو إتلافه، وليس خاضعًا للتنازل ولو برضا الأطراف‫.

فالله سبحانه وتعالى قد وهب تلك الحرية للإنسان من أجل أداء الأمانة التي حملها له لحظة بدء الخلق، ويحصل أداء تلك الأمانة بعبادته سبحانه وعمارة الكون؛ ليكون خليفة الله في أرضه، قال السرخسي: “والنفس مخلوقة لأمانة الله تعالى، والاشتغال بطاعته؛ ليكون خليفة في الأرض”([31]).

فعلاقة الحرية بالأمانة تسير وفق طريقين:

الأول: أن الحرية أنعم الله بها على العبد لأجل أداء الأمانة، وبالتالي فلا يجوز إكراهُ أيِّ أحدٍ على أي معتقد ولو كان عبادة الخالق سبحانه صاحب الأمانة، فرغم حرمة الكفر إلا أنه لا يجوز إكراه الكافر على الإيمان، قال تعالى: {لَآ إِكۡرَاهَ فِي ٱلدِّينِ} [البقرة: 256].

الثاني: أن الحرية أمانة في حد ذاتها، فهي حق الله سبحانه، لا يحق لأي شخص أن يتنازلَ عنها أو يبيعَها أو يتفاوضَ عليها؛ لذلك لا يحق للحر أن يبيعَ نفسه ويصبح رقيقًا، مسلمًا كان أو كافرًا، قال برهان الدين البخاري: “لا يجوز استرقاق الحر برضاه؛ لأنَّ فيه حقَّ الله تعالى”([32]).

بل قد صرَّح فقهاء الحنفية أن الناس كلهم خصوم لذلك الذي يريد بيع نفسه؛ لأنهم ينوبون في الدفاع عن حق الله سبحانه المتمثل في أمانة الحرية([33]).

([1]) ينظر مثلًا: الأصل للشيباني (4/ 552، 562، 571، 577) تحقيق أبي الوفا الأفغاني، إدارة القرآن والعلوم الإسلامية- كراتشي، مبسوط السرخسي (1/ 70، 207)، بدائع الصنائع (1/ 36، 37، 60، 85) دار الكتب العلمية، الطبعة الثانية، 1406هـ/ 1986م.

([2]) ينظر مثلا: مبسوط السرخسي (1/ 26، 47، 58، 81، 108)، بدائع الصنائع للكاساني (1/ 18، 24، 25، 26، 60)، الهداية للمرغيناني (1/ 23، 25، 217، 219) تحقيق طلال يوسف، دار إحياء التراث العربي- بيروت.

([3]) تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق للزيلعي (3/ 249) المطبعة الكبرى الأميرية، القاهرة، الطبعة الأولى، 1313هـ.

([4]) ينظر: كشف الأسرار شرح أصول البزدوي لعلاء الدين البخاري (4/ 288) دار الكتاب الإسلامي.

([5]) ينظر: مبسوط السرخسي (11/ 119)، الهداية للمرغيناني (3/ 178) و(4/ 453)، كشف الأسرار شرح أصول البزدوي لعلاء الدين البخاري (4/ 73)، فتح القدير للكمال بن الهمام (9/ 258) دار الفكر.

([6]) ينظر: كشف الأسرار شرح أصول البزدوي لعلاء الدين البخاري (4/ 288)، تبيين الحقائق للزيلعي (2/ 167)، فتح القدير للكمال بن الهمام (3/ 494).

([7]) ينظر: تبيين الحقائق (2/ 168)، فتح القدير للكمال بن الهمام (3/ 404).

([8]) المبسوط (9/ 82).

([9]) ينظر: مبسوط السرخسي (21/ 8).

([10]) ينظر: الهداية للمرغيناني (3/ 46)، تبيين الحقائق (4/ 51)، حاشية ابن عابدين (5/ 58).

([11]) حاشية ابن عابدين (5/ 58).

([12]) فتح القدير لابن الهمام (8/ 283).

([13]) العناية شرح الهداية للبابرتي (4/ 429) دار الفكر.

([14]) مقدمة ابن خلدون (ص: 55) تحقيق خليل شحادة، دار الفكر، بيروت، الطبعة الثانية، 1408هـ/ 1988م.

([15]) ينظر: مبسوط السرخسي (11/ 119)، الهداية للمرغيناني (3/ 178) و(4/ 453)، كشف الأسرار شرح أصول البزدوي لعلاء الدين البخاري (4/ 73)، فتح القدير للكمال بن الهمام (9/ 258).

([16]) كشف الأسرار شرح أصول البزدوي (4/ 300).

([17]) ينظر: السابق.

([18]) ينظر: مبسوط السرخسي (30/ 251).

([19]) السابق.

([20]) ينظر: مجلة الأحكام العدلية (ص: 15) تحقيق نجيب هواويني، نور محمد، كارخانة تجارت كتب، آرام باغ، كراتشي.

([21]) المبسوط (4/ 193).

([22]) أخرجه النسائي، كتاب النكاح، باب: البكر يزوجها أبوها وهي كارهة (3269).

([23]) السابق.

([24]) البناية شرح الهداية (9/ 4) تحقيق أيمن صالح شعبان، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1420هـ/ 2000م.

([25]) ينظر: حاشية ابن عابدين (4/ 15).

([26]) ينظر: مبسوط السرخسي (4/ 193).

([27]) بدائع الصنائع (2/ 88).

([28]) ينظر: أصول السرخسي (1/ 299) تحقيق أبي الوفا الأفغاني، لجنة إحياء المعارف النعمانية، حيدر آباد الدكن – الهند.

([29]) ينظر: الهداية للمرغيناني (2/ 406).

([30]) ينظر: مبسوط السرخسي (9/ 56) و(11/ 102)، بدائع الصنائع (2/ 275، 310)، تبيين الحقائق (2/ 159، 172).

([31]) مبسوط السرخسي (26/ 63).

([32]) المحيط البرهاني في الفقه النعماني (9/ 215) تحقيق عبد الكريم سامي الجندي، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1424هـ/ 2004م. وينظر: قرة عين الأخيار لابن عابدين (7/ 483) دار الفكر- بيروت.

([33]) ينظر: بدائع الصنائع (6/ 235، 236).

اترك تعليقاً