البرنامج الموسوعي الجامع

البرنامج الموسوعي الجامع

أثر الإمامين زفر والحسن بن زياد في تطور المذهب

65 views

لم ينل كلٌّ من زفر والحسن بن زياد نفس المكانة التي نالها القاضي أبو يوسف ومحمد بن الحسن في الفقه الحنفي، وهذا لا يعني أنهما لم يكن لهما التأثيرُ الكبير في المذهب الحنفي؛ بل هما بلا شك من رواد المذهب، وأقوالهما محل عناية فقهاء الحنفية، ولها أثرها في تحرير المذهب وبيان المعتمد منه، إلا أن المقصود أنهما لم يكونا على نفس الدرجة والمكانة للإمامين أبي يوسف ومحمد بن الحسن.

فزفر بن الهذيل أقدم أصحاب أبي حنيفة، أقدم من أبي يوسف ومحمد بن الحسن أنفسهما([1])، وخلف شيخه أبا حنيفة في حلقة درسه بعد وفاته؛ حيث كان التدريس هو أول ما خدم به مذهب شيخه([2]).

وكان قد ولي قضاء البصرة، وكعادة الأقاليم المجاورة كان أهل البصرة ينافسون أهل الكوفة، ويعارضون المذهب الحنفي، إلا أن الإمام زفر استطاع البقاء عندهم، بل تشبَّث به أهلها ومنعوه الخروج منها، فردَّهم إلى قول أبي حنيفة رحمه الله ونشر فقهه بحكمة في أوساطهم، كما جاء فيما رواه الصيمري بسنده عن هلال بن يحيى قال: «رحل يوسف بن خالد السمتي من البصرة إلى الكوفة فتفقه عند أبي حنيفة، فلما أراد الخروج إلى البصرة قال له أبو حنيفة: إذا صرت إلى البصرة فإنك تجيء إلى قوم قد تقدمت لهم الرئاسة، فلا تعجل بالقعود عند أسطوانة واتخاذ حلقة ثم تقول: قال أبو حنيفة، وقال أبو حنيفة؛ فإنك إذا فعلت ذلك لم تلبث حتى تقام. قال: فخرج يوسف فأعجبته نفسه وجلس عند أسطوانة وقال: قال أبو حنيفة. قال: فأقاموه من المسجد، فلم يذكر أحد أبا حنيفة حتى قدم زفر البصرة، فجعل يجلس عند الشيوخ الذين تقدمت لهم الرئاسة فيحتج لأقوالهم بما ليس عندهم، فيعجبون من ذلك، ثم يقول: ههنا قول آخر أحسن من هذا، فيذكره ويحتج له ولا يُعلم أنه قول أبي حنيفة، فإذا حسن في قلوبهم قال: فإنه قول أبي حنيفة. فيقولون: هو قول حسن لا نبالي من قال به، فلم يزل بهم حتى ردهم إلى قول أبي حنيفة»([3]).

وذكر ابن عبد البر أن الإمام أبا حنيفة قال لزفر: «قد علمت ما بيننا وبين أهل البصرة من العداوة والحسد والمنافسة، ما أظنك تسلم منهم. فلما قدم البصرة قاضيًا اجتمع إليه أهل العلم وجعلوا يناظرونه في الفقه يومًا بعد يوم، فكان إذا رأى منهم قبولًا واستحسانًا لما يجيء به قال لهم: هذا قول أبي حنيفة. فكانوا يقولون: ويحسن أبو حنيفة هذا؟ فيقول لهم: نعم وأكثر من هذا. فلم يزل بهم إذا رأى منهم قبولًا لما يحتج به عليهم ورضًا به وتسليمًا له قال لهم: هذا قول أبي حنيفة، فيعجبون من ذلك، فلم تزل حاله معهم على هذا حتى رجع كثير منهم عن بغضه إلى محبته، وإلى القول الحسن فيه بعد ما كانوا عليه من القول السيئ فيه»([4]).

وزفر لم يؤثر عنه كتب، ولم تعرف له رواية لمذهب شيخه، ويظهر أن السبب في ذلك قصر حياته بعده، فقد توفي بعده بنحو ثماني سنوات، بينما الصاحبان عاش كل منهما بعده أكثر من ثلاثين عامًا، فتوافر لهم زمن للكتابة والتدوين والمراجعة والدرس. ولكن يظهر أنه عمل على نشر آراء أبي حنيفة بلسانه وإن لم يدونها بقلمه([5]).

أما الإمام الحسن بن زياد فقد اشتهر برواية الحديث بجانب روايته لآراء الإمام أبي حنيفة، غير أن الفقهاء لا يرفعون روايته للفقه الحنفي إلى درجة كتب ظاهر الرواية للإمام محمد([6]).

وكان قد ولي القضاء لكنه لم يوفق فيه، فاستعفى وجلس للفتيا والتدريس، وعلى الأخير انصب اهتمامه، حيث كان ينظم له وقته ويرتبه على أقسام: فكان يجلس أول النهار إذا انصرف من صلاة الفجر يدرس ويخوض مع أصحابه في مسائل الفروع عمومًا إلى قبيل الزوال، وبعد الظهر كان يجلس للواقعات حتى العصر، وبعد العصر كان يشرف على مناقشات أصحابه في الأصول، وبعد المغرب كان يذاكرهم المسائل المغلقة حتى العشاء، وبعد ذلك كان يجلس لمسائل الدور والوصايا إلى ثلث الليل. وكان لا يفتر عن النظر في العلم، وكانت له جارية إذا اشتغل بالطعام أو الوضوء أو غير ذلك قرأت عليه المسائل حتى يفرغ من حاجته([7]).

([1]) ينظر: أبو حنيفة حياته وعصره وآراؤه الفقهية (ص: 245).

([2]) ينظر: المذهب الحنفي لنصير الدين النقيب (1/ 118).

([3]) أخبار أبي حنيفة وأصحابه (ص: 110).

([4]) الانتقاء لابن عبد البر (ص: 173، 174).

([5]) ينظر: أبو حنيفة حياته وعصره وآراؤه الفقهية (ص: 245).

([6]) ينظر: السابق (ص: 246).

([7]) ينظر: المذهب الحنفي لنصير الدين النقيب (1/ 120).

اترك تعليقاً