البرنامج الموسوعي الجامع

البرنامج الموسوعي الجامع

دور الإمام محمد بن الحسن في تطور المذهب

70 views

إذا نظرنا إلى أصحاب الإمام أبي حنيفة الأوائل، فلا شك أن الإمام أبا يوسف والإمام محمد بن الحسن يبرزان كأهم أصحاب الإمام في تكوين المذهب، إلا أن محمد بن الحسن الشيباني كان له الدور الأكبر في تطور المذهب؛ نظرًا لما خلفه من مصنفات أسست للرواية، وهي كتب ظاهر الرواية، بالإضافة إلى غيرها من المصنفات التي نصرت المذهب ومهدت لبيان طرق استدلاله وأصوله في هذا الصدد.

إذن فإن التدوين كان أهم ما ميز وعلا برتبة محمد بن الحسن فيما يخص المذهب الحنفي، فقام برواية فقه الشيخين أبي حنيفة وأبي يوسف، وأضاف إليه فروعًا كثيرة أخرى، ثم دونها في «كتب ظاهر الرواية»: الجامع الصغير، والجامع الكبير، والزيادات، والسير الصغير، والسير الكبير، والمبسوط (الأصل)، وهذه الكتب هي عمدة المذهب الحنفي، ويدور في فلكها ما جاء بعدها من مؤلفات المذهب. وله غيرها من المؤلفات؛ ككتاب الآثار، والأمالي، والحجة على أهل المدينة، وغيرها كثير. وقد جمع في هذه المؤلفات شتات الفقه الحنفي، وهذبه ورتبه، وحافظ عليه، ونقله إلى مَن بعده من أجيال([1]).

وله قسم آخر من الكتب لم يبلغ في نسبته إلى الإمام محمد مبلغ «كتب ظاهر الرواية»، وهي الكيسانيات، والهارونيات، والجرجانيات، والرقيات، وزيادة الزيادات، ويقال لها: «غير ظاهر الرواية»؛ لأنها لم تروَ عنه بروايات ظاهرة ثابتة كالأولى([2]).

ولا مِرَاء في أن ما دونه الإمام محمد بن الحسن من فقه في تلك المؤلفات يقطع بأنه أول من دوَّن الفقه الحنفي تدوينًا مفصلًا شاملًا، فشيخه أبو حنيفة اهتم بتربية الرجال أكثر من اهتمامه بتأليف الكتب([3]).

وقد يستغرب البعض إحاطة محمد بن الحسن بآراء شيخه أبي حنيفة رغم أن الإمام قد توفي وهو في نحو الثامنة عشرة من عمره، فصحبته لأبي حنيفة لم تكن بمقدار من الزمن يسمح بهذا الاستيعاب، ولم تكن سنه وقت وفاة أبي حنيفة تسمح له بكل هذه الإحاطة؛ ولذا فكتب الإمام محمد الحاكية لآراء الإمام أبي حنيفة لا بد أن تكون مدونة في مذكرات خاصة أخذها عن شيخه أبي يوسف أو غيره، وسمع بعضها القليل من أبي حنيفة نفسه. وحيث لم تكن هذه السن لتسمح له بأن يتلقى عن أبي حنيفة كل ما دونه في كتبه، فلا بد أن يكون قد أخذه عن مجموعات مدونة معروفة عند أصحاب الإمام الجليل، ولا يفترض أنه تلقاها كلها سماعًا من أبي يوسف ثم دونها؛ لأنه لو كان كذلك لذكر السند وعني ببيان الرواية([4]).

ومنهج الإمام محمد بن الحسن في التدوين يقوم على عدة مبادئ، أهمها:

– كان لا يكتفي بتسجيل الآراء، بل يناقشها أو يعلل لها في أغلب الشأن، ثم يقبلها أو يرفضها.

– الاهتمام بتفصيل المسائل وذكر الفروع بطريقة الافتراض والتصور العقلي في ترابط وتسلسل منطقي، بحيث تفضي كل مسألة إلى التي تليها، وبحيث تذكر المسألة الواحدة في صورها الممكنة عقلًا.

– كان أحيانًا يذكر في صدر كل كتاب منهجه في تأليفه، فقد جاء في مستهل كتاب الأصل: «قد بينت لكم قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وقولي، وما لم يكن فيه خلاف فهو قولنا جميعًا»([5]).

– كان لا يسرد الأدلة على المسائل ما دامت بمتناول جمهور الفقهاء من أهل طبقته، وإنما كان يسردها في مسائل ربما تعزب أدلتها عن علمهم.

– كانت تسود الموضوعية والأمانة العلمية كل مؤلفات الإمام الشيباني، وكان ينتصر للرأي لذاته لا لقائله.

– كان التبويب والترتيب الموضوعي الخصيصة الغالبة في منهج الإمام محمد بن الحسن الشيباني.

وبهذه المبادئ أعطى منهج الإمام محمد للتدوين الفقهي -من خلال تدوينه للفقه الحنفي- صورة جديدة من البسط والتحليل والمقارنة لم تكن مألوفة من قبل([6]).

فالإمام محمد بن الحسن يعدُّ بحقٍّ ناقلَ فقهِ العراقيين إلى الآفاق، وكتبه تعدُّ المرجع الأول لفقه أبي حنيفة، سواء في ذلك ما كان بروايته عن أبي يوسف وراجعه عليه، وما كان قد دونه من المعروف من فقه أهل العراق وتلقاه عن أبي يوسف وغيره، ولم يكن نقله مقصورًا على العراقيين؛ فقد روى الموطأ عن مالك ودونه، وتعد روايته له من أجود الروايات، وقد كان يذكر رده على مالك وأهل الحجاز فيما كان يعتنقه هو من آراء العراقيين([7]).

وبجانب الأثر الكبير الذي تركه محمد بن الحسن في التدوين، كان له أثره المماثل في نشر المذهب وتطوره بالدرس الفقهي والاتصال المباشر بالطلبة والفقهاء، وكان مجلسه بالكوفة أشهر المجالس الفقهية في وقته([8]). ويكفي لمعرفة أثر الدرس الفقهي لمحمد بن الحسن أن نطالع كم العلماء الذين حضروه أو تخرجوا به، ومنهم:  أبو سليمان الجوزجاني، وهشام بن عبيد الله الرازي، والمعلى بن منصور الرازي، وأبو حفص أحمد بن حفص البخاري، وأبو الحسن علي بن معبد بن شداد الرقي، وعيسى بن أبان بن صدقة، وأبو عبد الله محمد بن سماعة التميمي، وغيرهم([9]).

ولم يختلف محمد بن الحسن عن الإمام أبي يوسف في التأثير من جهة القضاء، فقد تولى القضاء في عهد الخليفة العباسي هارون الرشيد رحمه الله، حيث تولى قضاء الرقة بناء على توصية الإمام أبي يوسف رحمه الله -كما سبق بيانه- ثم أصبح القاضي الأول للدولة.

وقد كانت هذه الولاية دراسة أخرى أفادته علمًا وتجربة، وقربت فقهه من الناحية العملية، وجعلته ينحو نحو العمل، ولا يقتصر على التصور والنظر المجرد، مع ما لها من أثر في نشر فقهه ومذهبه بين الناس، فقد كان رحمه الله معنيًّا بالإفادة من تجارب الناس، وتقريب الفقه إلى الأفهام، وتقديمه للناس على نحو يسهل عليهم فهمه ويتلاءم مع تعاملهم وواقع حياتهم؛ ولذلك كان يذهب إلى الصباغين ويسأل عن معاملاتهم، وما يديرونه فيما بينهم([10]).

وكما ذكرنا من قبل فإن تأثير الإمام محمد بن الحسن في فقه أبي حنيفة كان مميزًا ومختلفًا ومؤثرًا مقارنة بالإمام أبي يوسف لما تركه محمد بن الحسن من مصنفات من جهة، ولما كان له من اتصال بغيره من الفقهاء الكبار كالإمام مالك رحمه الله، فقد أقام عنده ثلاث سنوات، أخذ منه في خلالها الفقه والحديث، وسمع منه الموطأ ورواه عنه، وروايته مشهورة متداولة([11]). فتلقى فقه أهل الحجاز كاملًا عن شيخ المدينة الإمام مالك وضمه إلى الفقه العراقي.

وروي عن الإمام الشافعي رحمه الله أنه قال: «قال محمد بن الحسن: أقمت على باب مالك ثلاث سنين وكسرًا، وكان يقول: إنه سمع منه لفظًا أكثر من سبعمائة حديث. قال: وكان إذا حدثهم عن مالك امتلأ منزله وكثر الناس عليه حتى يضيق عليهم الموضع، وإذا حدثهم عن غير مالك لم يجبه إلا اليسير من الناس»([12]).

وهذا ساعده للتأسيس فيما بعد لفقه الخلاف من خلال كتابه “الحجة على أهل المدينة”، ونشر طريقة الحنفية في الاستدلال في مقابل المذاهب الأخرى، وهو ما ساعد في تطور المذهب فيما بعد، واستخراج أصوله وضبط منهجه.

([1]) ينظر: المذهب الحنفي لنصير الدين النقيب (1/ 112، 113).

([2]) ينظر: أبو حنيفة حياته وعصره وآراؤه الفقهية لأبي زهرة (ص: 235).

([3]) ينظر: الفقه الحنفي وأثره في تدوين فقه المذاهب لمحمد السيد الدسوقي (ص: 298) قسم الفقه والأصول- كلية الشريعة والقانون والدراسات الإسلامية- جامعة قطر.

([4]) ينظر: أبو حنيفة حياته وعصره وآراؤه الفقهية لأبي زهرة (ص: 211، 212).

([5]) الأصل (ص: 1/ 1، 2) تحقيق أبي الوفا الأفغاني، إدارة القرآن والعلوم الإسلامية- كراتشي.

([6]) ينظر: الفقه الحنفي وأثره في تدوين فقه المذاهب لمحمد السيد الدسوقي (ص: 300).

([7]) ينظر: أبو حنيفة حياته وعصره وآراؤه الفقهية لأبي زهرة (ص: 232، 234).

([8]) تاريخ بغداد (2/ 564).

([9]) ينظر: المذهب الحنفي لنصير الدين النقيب (1/ 115).

([10]) ينظر: السابق (1/ 117).

([11]) ينظر: أبو حنيفة حياته وعصره وآراؤه الفقهية (ص: 222).

([12]) تاريخ بغداد (2/ 562).

اترك تعليقاً